فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {أفمن يعلم}
استفهام بمعنى التقرير، والمعنى: أسواء من هداه الله فعلم صدق نبوتك وآمن بك، ومن لم يهتد ولا رزق بصيرة فبقي على كفره، فمثل عز وجل ذلك بالعمى.
وروي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم.
و{إنما} في هذه الآية حاصرة، أي: {إنما يتذكر} فيؤمن ويراقب الله من له لب وتحصيل.
ثم أخذ تعالى في وصف هؤلاء الذين يسرهم للإيمان فقال: {الذين يوفون بعهد الله} وقوله: {بعهد الله}: اسم للجنس، أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيدة، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي.
وقوله: {ولا ينقضون الميثاق} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا اعتقدوا في طاعة الله عهدًا لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم الله إلىعباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ويحتمل أن يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه الله على عباده وقت مسحه على ظهر أبيهم آدم عليه السلام.
ووصل ما أمر الله به أن يوصل: ظاهره في القرابات وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. و: {سوء الحساب} هو أن يتقصى ولا تقع فيه مسامحة ولا تغمد.
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الصبر لوجه الله يدخل في الرزايا والأسقام والعبادات وعن الشهوات ونحو ذلك.
و{ابتغاء} نصب على المصدر أو على المفعول لأجله، والوجه في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، وهذا كما تقول: خرج الجيش لوجه كذا، وهذا أظهر ما فيه مع احتمال غيره وإقامة الصلاة هي الإتيان بها على كمالها، و: {الصلاة} هنا هي المفروضة وقوله: {وأنفقوا} يريد به مواساة المحتاج، والسر هو فيما أنفق تطوعًا، والعلانية فيما أنفق من الزكاة المفروضة، لأن التطوع كله الأفضل فيه التكتم.
وقوله: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي ويدفعون من رأوا منه مكروهًا بالتي هي أحسن، وقيل: يدفعون بقوله: لا إله إلا الله، شركهم وقيل: يدفعون بالسلام غوائل الناس.
قال القاضي أبو محمد: وبالجملة فإنهم لا يكافئون الشر بالشر، وهذا بخلاف خلق الجاهلية، وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات.
وقوله: {عقبى الدار} يحتمل أن يكون: {عقبى} دار الدنيا، ثم فسر العقبى بقوله: {جنات عدن} إذ العقبى تعم حالة الخير وحالة الشر، ويحتمل أن يريد: {عقبى} دار الآخرة لدار الدنيا، أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم.
وقرأ الجمهور: {جنات عدن} وقرأ النخعي: {جنة عدن يُدخَلونها} بضم الياء وفتح الخاء. و: {جنات} بدل من: {عقبى} وتفسير لها. و: {عدن} هي مدينة الجنة ووسطها، ومنها جنات الإقامة. من عدن في المكان إذا أقام فيه طويلًا ومنه المعادن، و: {جنات عدن} يقال: هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط- قاله عبد الله بن عمرو بن العاصي- ويروى: أن لها خمسة آلاف باب.
وقوله: {ومن صلح} أي من عمل صالحًا وآمن- قاله مجاهد وغيره- ويحتمل: أي من صلح لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه.
وحكى الطبري في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها. والمعنى: يقولون: سلام عليكم، فحذف- يقولون- تخفيفًا وإيجازًا، لدلالة ظاهر الكلام عليه، والمعنى: هذا بما صبرتم، والقول في: {عقبى الدار} على ما تقدم من المعنيين.
وقرأ الجمهور: {فنِعْم} بكسر النون وسكون العين، وقرأ يحيى بن وثاب: {فنَعِم} بفتح النون وكسر العين.
وقالت فرقة: معنى: {عقبى الدار} أي أن أعقبوا الجنة من جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل مبني على حديث ورد، وهو: أن كل رجل في الجنة فقد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله عنه إلى النعيم، فيعرض عليه ويقال له: هذا كان مقعدك فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أفمن يعلم أن ما أُنزل إِليك من ربك الحق كمن هو أعمى}
قال ابن عباس: نزلت في حمزة، وأبي جهل.
{إِنما يتذكر} أي: إِنما يتَّعظ ذوو العقول.
والتذكُّر: الاتعاظ.
قوله تعالى: {الذين يوفون بعهد الله}
في هذا العهد قولان:
أحدهما: أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم.
والثاني: ما أمرهم به وفرضه عليهم.
وفي الذي أمر الله به، عز وجل، أن يوصل، ثلاثة أقوال قد نسبناها إِلى قائلها في أول سورة [البقرة: 27]، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفًا.
قوله تعالى: {والذين صبروا} أي: على ما أُمروا به: {ابتغاء وجه ربهم} أي: طلبًا لرضاه: {وأقاموا الصلاة} أتمُّوها: {وأنفقوا مما رزقناهم} من الأموال في طاعة الله.
قال ابن عباس: يريد بالصلاة: الصلوات الخمس، وبالإِنفاق: الزكاة.
قوله تعالى: {ويدرؤون} أي: يدفعون: {بالحسنة السيئة}.
وفي المراد بهما خمسة أقوال:
أحدها: يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل، قاله ابن عباس.
والثاني: يدفعون بالمعروف المنكر، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: بالعفو الظلمَ، قاله جُوَيبر.
والرابع: بالحلم السفهَ، كأنهم إِذا سُفه عليهم حَلُموا، قاله ابن قتيبة.
والخامس: بالتوبة الذنْبَ، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} قال ابن عباس: يريد: عقباهم الجنة، أي: تصير الجنة آخر أمرهم.
قوله تعالى: {ومن صلح} وقرأ ابن أبي عبلة: {صلُح} بضم اللام.
ومعنى: {صلح} آمن، وذلك أن الله تعالى ألحق بالمؤمن أهله المؤمنين إِكرامًا له، لتقرَّ عينُه بهم.
{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} قال ابن عباس: بالتحية من الله والتحفة والهدايا.
قوله تعالى: {سلام عليكم} قال الزجاج: أُضمر القول هاهنا، لأن في الكلام دليلًا عليه.
وفي هذا السلام قولان:
أحدهما: أنه التحية المعروفة، يدخل الملَك فيسلِّم وينصرف.
قال ابن الأنباري: وفي قول المسلِّم: سلام عليكم، قولان: أحدهما: أن السلام: اللهُ عز وجل، والمعنى: الله عليكم، أي: على حفظكم.
والثاني: أن المعنى: السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة.
والثاني: أن معناه: إِنما سلَّمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرِّها بصبركم في الدنيا.
وفيما صبروا عليه خمسة أقوال:
أحدها: أنه أمر الله، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: فضول الدنيا، قاله الحسن.
والثالث: الدِّين.
والرابع: الفقر، رويا عن أبي عمران الجَوني.
والخامس: أنه فقد المحبوب، قاله ابن زيد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى}
هذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، ورُوي أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله.
والمراد بالعَمَى عَمَى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله.
والعهد اسم للجنس؛ أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصّى بها عَبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزامُ جميع الفروض، وتجنبُ جميع المعاصي.
وقوله: {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدًا لم ينقضوه.
قال قَتَادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، وهو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم.
وقال القَفّال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات.
الثانية: روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: «ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك. حتى قالها ثلاثًا؛ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: «أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وتُصلّوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتُطيعوا وأسرّ كلمةً خَفِيَّةً قال لا تسألوا الناس شيئًا» قال: ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط سَوْطه فما يسأل أحدًا أن يناوله إيّاه.
قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألاّ يُسأل سواه؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العبّاد سمع أن أناسًا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ يسألوا أحدًا شيئًا، الحديث؛ فقال أبو حمزة: رب إن هؤلاء عاهدوا نبيّك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألاّ أسأل أحدًا شيئًا؛ قال: فخرج حَاجًّا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق؛ فلما حلّ في قعره قال: أستغيث لعل أحدًا يسمعني.
ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرًا إذ مرّ بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سدّ هذا البئر؛ ثم قطعوا خشبًا ونصبوها على فم البئر وغطّوها بالتراب؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: والله! لا أخرج منها أبدًا؛ ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت مَن يراك؟ فسكَتَ وتوكّل، ثم استند في قعر البئر مفكرًا في أمره فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك! قال: فأعطيته يدي فأقلّني في مرة واحدة إلى فم البئر، فخرجت فلم أر أحدًا؛ فسمعت هاتفًا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد:
نَهانِي حَيائِي منكَ أن أكشفَ الهوى ** فأغنيتني بالعِلْمِ منكَ عن الكَشْف

تَلَطَّفْتَ في أمري فأبديت شاهدي ** إلى غائبي واللّطفُ يُدرَكُ باللُّطْف

تَراءيتَ لي بالعلم حتى كأنما ** تُخَبِّرُني بالغيب أنّكَ في كفِّ